رحله الأسرار مع كتاب مدارج السالكين - الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني من "مدارج السالكين"
مقدمة الجزء الثاني
الحمد لله الذي جعل الصبر مفتاح الفرج، والشكر طريق الزيادة، والمراقبة سبيل الإخلاص، والمحاسبة طريق التزكية. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي أرشدنا إلى منازل السالكين، وعلَّمنا كيف نرقى في مدارج القرب من الله تعالى.
أما بعد، فإن كتاب "مدارج السالكين" للإمام ابن القيم الجوزية يُعد من أعظم الكتب التي تتناول التزكية الروحية والسلوكية في الإسلام. وهو شرحٌ عميقٌ لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، حيث يقسم المؤلف المنازل الروحية التي يمر بها السالكون إلى الله تعالى إلى ثلاثة أجزاء رئيسية.
المنازل المتوسطة
في الجزء الأول، تناول ابن القيم المنازل الأساسية التي تعتبر حجر الزاوية في بناء العلاقة مع الله، مثل الإخلاص، التوكل، المحبة، والخوف والرجاء. هذه المنازل هي الأساس الذي تُبنى عليه جميع الأعمال الصالحة، وهي بمثابة الخطوات الأولى في طريق السير إلى الله.
أما الجزء الثاني، الذي نحن بصدد الحديث عنه، فيركز على المنازل المتوسطة التي تحتاج إلى مجاهدة أكبر وتزكية أعمق للنفس. هذه المنازل هي: الصبر، الشكر، المراقبة، والمحاسبة. وهي تمثل المرحلة الثانية في سير المؤمن إلى الله، حيث يتعلم كيف يواجه التحديات، ويشكر النعم، ويراقب نفسه، ويحاسبها على تقصيرها.
أهمية الجزء الثاني
- الصبر: هو السلاح الذي يُعِين المؤمن على تحمل الابتلاءات والمصائب، ويجعله يرضى بقضاء الله وقدره.
- الشكر: هو الاعتراف بنعم الله واستخدامها في طاعته، وهو طريق إلى المزيد من النعم ورضا الله.
- المراقبة: هي استشعار حضور الله في كل لحظة، مما يجعل العبد يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله.
- المحاسبة: هي مراجعة النفس على أعمالها وتصرفاتها، وهي سبيل إلى التزكية والارتقاء الروحي.
هدف الجزء الثاني
يهدف هذا الجزء إلى تعليم المؤمن كيف يكون عبدًا صالحًا، يعبد الله بإخلاص ويستعين به في كل أموره. فهو يقدم للمسلم أدوات عملية لترقية نفسه روحياً، من خلال التركيز على المنازل المتوسطة التي تقربه من الله تعالى.
منزلة الصبر
الصبر هو حبس النفس على ما تكره، وثبات القلب في مواجهة الشدائد والمصائب، والتحمل في سبيل الله. الصبر ليس مجرد تحمل الأذى، بل هو تحمُّلٌ مع الرضا بقضاء الله وقدره، والثقة بأن الله سيُعوِّض الصابرين خيرًا.
أدلة الصبر من القرآن الكريم
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
- وقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
أدلة الصبر من السنة النبوية
- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" [رواه البخاري ومسلم].
- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" [رواه البخاري ومسلم].
أهمية الصبر
- تكفير الذنوب: الصبر على الابتلاءات يكفر الذنوب، كما في الحديث السابق.
- الأجر العظيم: الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
- النجاة من النار: الصبر هو طريق النجاة من النار، كما قال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111].
كيفية تحقيق الصبر
- التفكر في أجر الصبر: تذكر أن الصبر يجلب الأجر العظيم من الله، وأنه طريق إلى الجنة.
- قراءة القرآن: القرآن يذكر بالصبر وأجره، وقراءته تزيد من صبرك، مثل قصة النبي أيوب عليه السلام.
- الدعاء: اطلب من الله أن يرزقك الصبر، كما قال تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].
منزلة الشكر
الشكر هو الاعتراف بنعم الله تعالى، والثناء عليه بها، واستخدامها في طاعته. الشكر ليس مجرد قول "الحمد لله"، بل هو شعور القلب بالامتنان لله واستخدام النعم في طاعته.
أدلة الشكر من القرآن الكريم
- قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
- وقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].
أدلة الشكر من السنة النبوية
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" [رواه الترمذي].
- حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" [رواه مسلم].
أهمية الشكر
- المزيد من النعم: الشكر يجلب المزيد من النعم، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
- رضا الله: الشكر يجلب رضا الله، كما في الحديث السابق.
- تكفير الذنوب: الشكر يكفر الذنوب، لأنه يعترف بنعم الله ويشكره عليها.
كيفية تحقيق الشكر
- التفكر في نعم الله: تذكر نعم الله عليك، واشكره عليها، مثل الصحة، المال، الأهل، والأولاد.
- قراءة القرآن: القرآن يذكر بنعم الله، وقراءته تزيد من شكرك، مثل قصة النبي سليمان عليه السلام.
- الدعاء: اطلب من الله أن يرزقك الشكر، كما قال تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19].
منزلة المراقبة
المراقبة هي استشعار حضور الله في كل لحظة، والعمل على إرضائه في السر والعلن. المراقبة هي التي تجعل العبد يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله.
أدلة المراقبة من القرآن الكريم
- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
- وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14].
أدلة المراقبة من السنة النبوية
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" [رواه الترمذي].
- حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" [رواه البخاري ومسلم].
أهمية المراقبة
- تكفير الذنوب: المراقبة تجعل العبد يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله.
- زيادة الإخلاص: المراقبة تزيد من إخلاص العبد في أعماله.
- الطمأنينة: المراقبة تجلب الطمأنينة للقلب، لأنه يعلم أن الله يراقبه في كل حال.
كيفية تحقيق المراقبة
- التفكر في عظمة الله: تذكر أن الله يراك في كل حال، وأنه المطلع على سرائرك.
- قراءة القرآن: القرآن يذكر بمراقبة الله، وقراءته تزيد من مراقبتك.
- الدعاء: اطلب من الله أن يرزقك المراقبة، كما قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
منزلة المحاسبة
المحاسبة هي مراجعة النفس على أعمالها وتصرفاتها، ومحاسبتها على التقصير في حق الله وحق العباد.
أدلة المحاسبة من القرآن الكريم
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
- وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
أدلة المحاسبة من السنة النبوية
- حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم" [رواه الترمذي].
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" [رواه الترمذي].
أهمية المحاسبة
- تكفير الذنوب: المحاسبة تجعل العبد يتوب من ذنوبه.
- زيادة الإخلاص: المحاسبة تزيد من إخلاص العبد في أعماله.
- الطمأنينة: المحاسبة تجلب الطمأنينة للقلب، لأنه يعلم أنه يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله.
كيفية تحقيق المحاسبة
- التفكر في الأعمال: تذكر أعمالك وحاسب نفسك عليها.
- قراءة القرآن: القرآن يذكر بمحاسبة النفس، وقراءته تزيد من محاسبتك.
- الدعاء: اطلب من الله أن يرزقك المحاسبة، كما قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
خلاصة الجزء الثاني
الجزء الثاني من "مدارج السالكين" يركز على المنازل المتوسطة التي تحتاج إلى مجاهدة أكبر وتزكية أعمق للنفس، وهي: الصبر، الشكر، المراقبة، والمحاسبة. هذه المنازل تعلم المؤمن كيف يكون عبدًا صالحًا، يعبد الله بإخلاص ويستعين به في كل أموره، مما يؤدي إلى تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
كل الحقوق محفوظه لمدونة سامح العولقي بالإشتراك مع مدونة قناتك2
التعليقات (0)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق